أسباب أزمة بيانات «كوفيد-19» في الولايات المتحدة
ترجع هذه الأزمة إلى التدخلات السياسية، وإهمال إدارة بيانات الصحة العامة على مدار سنوات.
- Nature (2020)
- doi:10.1038/d41586-020-02478-z
- English article
- Published online:
تداعت سيطرة كوريا الجنوبية على تفشِّي فيروس كورونا خلال شهر أغسطس الماضي، بعدما شهدت إحدى الكنائس الكبيرة في مدينة سول تفشيًا للفيروس، أسفر عن إصابة 915 شخصًا حتى الخامس والعشرين من أغسطس. وقد أعادت حكومة البلاد فرض القيود على الحركة في المدينة، منعًا لزيادة عدد الإصابات زيادةً حادة، بيد أنها تذيع أيضًا تفاصيل التفشِّي، حيث صرَّحت -على سبيل المثال- بأنَّ 120 شخصًا ممن أصابتهم العدوى في الكنيسة قد نَقَلوا الفيروس إلى أشخاصٍ آخرين في 22 موقعًا، منها أربعة مراكز اتصالات، وثلاثة مستشفيات في العاصمة سول.
وتجدر الإشارة إلى أنه على مدى الأشهر السبعة الماضية، كانت وكالة المراكز الكورية لمكافحة الأمراض والوقاية منها تُحدِّث كل يوم تقريبًا موقعها على الإنترنت بمعلوماتٍ شِبه آنية عن تفشِّي المرض على المستوى المحلي. وينشر الموقع الإلكتروني أيضًا عدة إحصائياتٍ عن المرض لكل منطقةٍ في البلد.
وتُوفِّر كذلك لوحات متابعة البيانات في سنغافورة ونيوزيلندا فرصًا مماثلة للاطلاع على كيفية انتشار الفيروس داخل حدود البلدين. ويساعد هذا صُناع السياسات والمواطنين على تحديد الطريقة التي سيمارسون بها حياتهم اليومية، مع الحد من المخاطر التي قد يتعرضون لها، فضلًا عن أنَّ ذلك يمدّ الباحثين بمعلوماتٍ وفيرة عن انتشار المرض. وعلى النقيض من ذلك، لا توفرّ الولايات المتحدة الأمريكية سوى تفاصيل قليلة للغاية عن انتشار المرض داخل حدودها، حتى مع تزايد حركة السفر والاختلاط بين المواطنين، وإعادة فتح السلطات للمدارس والأعمال التجارية. وهذا الوضع مُحبِط للباحثين المتخصصين في مجال البيانات، الذين يريدون إعانة السلطات على اتخاذ قراراتٍ من شأنها إنقاذ الأرواح.
وعن ذلك، تقول ناتالي دين، المتخصصة في مجال الإحصاءات البيولوجية بجامعة فلوريدا في مدينة جينزفيل: "لا يُفترض بنا أن نستند إلى التكهنات في هذه المرحلة. ولا يُفترض بنا أن نضطر إلى ذلك".
وقد قال خبراء لدورية Nature إنَّ أسباب شُح المعلومات في الولايات المتحدة الأمريكية تشمل التدخُّلات السياسية، والمخاوف المتعلقة بالخصوصية، والإهمال الذي طال أنظمة متابعة الصحّة العامة على مدى سنوات.
محاربة المعلومات المغلوطة عن فيروس كورونا
لمن كانت الاستراتيجية الأنجح؟ علماء يبحثون عن أكثر السياسات فاعلية في مواجهة فيروس كورونا
نقص المعلومات وزيفها وجهان لعملةٍ واحدة
ورغم أنَّ المعلومات ليست الأداة الوحيدة التي يمكن التسلُّح بها في مواجهة الجوائح، فإن هناك ارتباطًا بين اهتمام كوريا الجنوبية بالبيانات، ونجاحها -بوجه عام- في السيطرة على تفشِّي الوباء؛ ففيما شهدت في المتوسط حوالي 3.5 حالة إصابة بين كل 10 آلاف شخص، وبلغ فيها عدد حالات الوفاة من جرّاء مرض "كوفيد-19" حالتين أسبوعيًّا خلال الشهر الماضي، شهدت الولايات المتحدة -على النقيض من ذلك- 175 حالة إصابة بين كل 10 آلاف شخص، وكان المرض فيها يفتك بحوالي 7 آلاف شخص أسبوعيًّا خلال الشهر نفسه.
وتدين كوريا الجنوبية بالفضل فيما يتعلق بالمعلومات القيِّمة المُفصَّلة التي تجمعها إلى شبكةٍ مُنظَّمة من مراكز الصحّة العامة في 250 منطقة إدارية بالبلاد، تُرسل معلوماتها على وجه السرعة إلى وكالة المراكز الكورية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. ويرى سونج إل تشو -عالِم الوبائيات في جامعة سول الوطنية- أنَّ نجاح هذا النظام يعود إلى اتِّباع تلك المراكز لسلطةٍ مركزية واحدة بهذا الشكل، إضافةً إلى سرعة تعيين علماء وبائيات إضافيين في وظائف مؤقَّتة، من أجل تلبية الحاجة إليهم خلال الجائحة. وقد ساعد هؤلاء العلماء في قيادة استقصاءات تتبُّع مخالطي المصابين بالمرض، التي تتمخض عن تفاصيل واضحة موجزة ومُجَهَّلة، مثل تلك التي كَشَفَت عن تفشِّي المرض في كنيسة سارانج جيل بمدينة سول.
وبالمقارنة، تبذل الولايات المتحدة في تتبُّع مخالطي المصابين جهودًا أقل كثيرًا من تلك التي تبذلها كوريا الجنوبية، بيد أن البيانات التي ترصدها جهود متابعة المرض فيها تتدفق بدورها من إدارات الصحة المحلية إلى الحكومة الفيدرالية. وقد استخدمت وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها هذا النظام على مدار سنوات، لمراقبة تفشي الأمراض، وتتبُّعها؛ وصولًا إلى مصادرها، كما حدث مع الزيادة الحادة الحالية في معدَّلات الإصابة ببكتيريا "السالمونيلا"، غير أن نظام المتابعة هذا واجه مشكلاتٍ على عدَّة مستويات خلال جائحة كورونا الحالية. وكانت النتيجة هي فقدان الكثير من البيانات، مثل المعلومات المتعلقة بمواقع تعرُّض الناس لعدوى فيروس كورونا الجديد. كما أنَّ البيانات الموجودة بالفعل يُفْصَح عنها متأخرًا.
وقد رفضت وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها التحدُّث مع دورية Nature بشأن كيفية إدارتها للبيانات المتعلقة بمرض "كوفيد-19"، وكذلك فعلت أربعٌ من إدارات الصحة الأمريكية، حيث إنّ عددًا من الموظفين العلميين السابقين بتلك الجهات والباحثين ممن تعاونوا معها قدَّموا للدورية بعض الأفكار حول أسباب نقص البيانات في الولايات المتحدة، والتباطؤ في الإفصاح عنها.
التدقيق الزائد
يتكهّن البعض بأنَّ المسؤولين في إدارة الرئيس ترامب يتكتَّمون بشدة على البيانات التي تصف وضع الجائحة، نظرًا إلى التوترات السياسية التي تحيط بهذه الأزمة. ويقول باحثون إنَّ الدراسات التي تُنشَر في دورية "موربيديتي آند مورتاليتي" Morbidity and Mortality Weekly Report، الصادرة عن وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، اتسمت بشمولها ودقتها، لكنَّها تُنشَر على الإنترنت بعد مدةٍ طويلة من فوات الوقت الذي يُمكن أن تؤثر فيه على تطورات الوضع. فعلى سبيل المثال.. في الواحد والثلاثين من يوليو الماضي، أفادت وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها بأنَّ 260 موظفًا وطفلًا قد أُصيبوا بالفيروس في مخيّمٍ ليلي بولاية جورجيا قبل أكثر من شهر (C. M. Szablewski et al. Morb. Mortal. Weekly Rep. 69, 1023–1025; 2020 ). ويقول صامويل جروسكلوز -اختصاصي الصحة العامة، الذي تقاعد من عمله لدى الوكالة في عام 2018- إنَّ تلك التقارير ربما تخضع لقدرٍ استثنائي من المراجعة في الوكالة، وربما في الوكالة الأم التي تتبعها، وهي وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية (HHS).
ويقول العلماء إنَّ وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها قد تعرضت لمزيدٍ من التهميش في شهر يوليو الماضي، حين أعلنت إدارة ترامب أنَّ البيانات المتعلّقة بحالات مرض "كوفيد-19" وإيداع المرضى في المستشفيات لن تَرِد إلى الوكالة بعد ذلك، وإنَّما ستتولاها، بدلًا منها، وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، التي يَتْبَع رئيسها مباشرةً الرئيس الأمريكي ترامب. وحتّى الآن، فإنَّ لوحة المتابعة الخاصة بالوزارة متخلفةٌ فيما تنشره من بياناتٍ بما يصل إلى أسبوع، كما إنّ ما تشمله من معلوماتٍ يقتصر على عدد الحالات، وسِعة المستشفيات، ولا يتضمن تفاصيل بعينها، مثل المواقع التي ينتشر فيها المرض بكثافة. ويقول متحدثٌ باسم الوزارة إنَّ هذا النظام الجديد يُحسِّن آلية الإبلاغ عن الحالات في 6 آلاف مستشفى بالدولة.
ومع ذلك.. يقول جورج بنجامين -المدير التنفيذي للجمعية الأمريكية للصحة العامة في العاصمة واشنطن- إنَّه بدلًا من أن يُحسِّن ذلك النظام عملية جمع البيانات، فإنَّه تسبب في مزيدٍ من الارتباك بها. وأضاف أنَّبعض مديري المستشفيات أصبحوا لا يعلمون إلى أي جهةٍ عليهم إرسال تقاريرهم. وهو يشعر بالإحباط أيضًا، لأنَّ المبلغ الذي أُنفق على منظومة وزارة الصحّة، والذي بلغ 10 ملايين دولار أمريكي، كان من الممكن إنفاقه في غرضٍ أفضل، وهو تطوير منظومة إدارة بيانات الصحة العامة في وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، وإدارات الصحة التي تتعاون معها في أرجاء البلاد، إذ تداعى هذا النظام -الذي عفا عليه الزمن- تحت ضغط العدد الهائل من حالات المرض في الولايات المتحدة، الذي بلغ 5.7 مليون حالة.
ويشير بنجامين إلى أنَّ العديد من إدارات الصحّة ما زال يشارك بياناته عبر الفاكس، وهو ما يستغرق وقتًا أطول ممَّا تستغرقه الوسائل الرقمية. كما أنَّ نقص التمويل يعني أيضًا افتقار الموظَّفين المُثقَلين بالعمل إلى الوقت اللازم لتحليل البيانات الموجودة لديهم. وجديرٌ بالذكر أنَّ الجمعية الأمريكية للصحة العامة، وغيرها من المنظمات العلمية، لطالما دعت إلى توفير الموارد، لتطوير آلية متابعة البيانات في منظومة الصحة العامة بالولايات المتحدة.
وتابع بنجامين كلامه قائلًا: "لقد استجدينا المال على مر السنين، لبناء قناةٍ سريعة للمعلومات، يمكن الاعتماد عليها، كي يتسنَّى لنا جمْع البيانات سريعًا، ومشاركتها مع مَن يحتاجون إليها في الوقت المناسب، لكنَّنا لم نحصل قَط على ما احتجنا إليه".
"لقد استجدينا المال على مر السنين، لبناء قناةٍ سريعة للمعلومات، يمكن الاعتماد عليها".
ويقول الباحثون الذين تحدَّثوا إلى دورية Nature إنَّ هذا الإهمال المستمر منذ فترةٍ طويلة قد تفاقم نتيجة الافتقار إلى قيادةٍ وطنية خلال الجائحة. كما أنَّه لا توجد شروطٌ مُعمَّمة على مستوى الدولة للمعلومات التي يتعيَّن على المستشفيات ومختبرات الفحوص أن تُبلغ إدارات الصحة بها. يقول رانو ديلون -المتخصص في الاستجابة للأوبئة بكلية هارفارد للطب في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية، الذي يعكف حاليًّا على علاج المصابين بعدوى "كوفيد-19" في مدينة فاليهو بولاية كاليفورنيا- إنَّه لا يتلقَّى طلباتٍ من إدارة الصحة المحلية بالإبلاغ عن المناطق التي يُحتَمل أنْ أُصيبَ المرضى فيها بالعدوى، ولا مِن وكالة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. ويُسجِّل ديلون هذه البيانات في السجلات الصحية للمرضى طواعيةً، لكنّه ليس متأكدًا مما إذا كانت إدارة الصحة المحلية، أو تلك الخاصة بالولاية، تستخدمان تلك المعلومات، أم لا، وهو ما يثير قلقه. وجدير بالذكر أن ديلون شارك في جهود الاستجابة لتفشِّي فيروس الإيبولا في غينيا في عام 2015، وهو يقول إنَّ السلطات هناك كانت تجمع بياناتٍ عن الكيفية التي أُصيبَ بها المرضى بالفيروس، من أجل الحدِّ من انتشاره. وأضاف قائلًا: "تلك المعلومات الجوهرية من شأنها أن تساعدنا على التعمُّق أكثر في دراسة انتقال عدوى المرض. وعدم قيامنا بجمْع هذه المعلومات هو ضرب من الجنون".
منْع الوصول إلى البيانات
يرغب علماء الوبائيات في الجامعات في مساعدة إدارات الصحة المُثقَلة بالأعباء -سواءٌ المحلية منها، أو إدارات الولايات- على تحليل ما لديها من بيانات، من أجل مساعدة المسؤولين على إدارة جهود التصدي لجائحة فيروس كورونا على نحو فعال. وتشارك عادةً إدارات الصحة بيانات متابعة الأمراض مع الباحثين عند الطلب، لكنْ في أثناء جائحة "كوفيد-19"، مُنِع علماء الوبائيات من الوصول إلى تلك البيانات، فعلى سبيل المثال، تطلب ستيفاني ستراثدي -عالمة الوبائيات المتخصصة في فيروس نقص المناعة البشرية بجامعة كاليفورنيا في مدينة سان دييجو- عادةً أن تحصل على بيانات الحالات مُصنَّفةً حسب عوامل معينة؛ مثل الموقع، والعِرق، وطريقة العدوى المحتملة، كتعاطي المخدرات عن طريق الأوردة. وتقول ستيفاني عن ذلك: "تُتابَع الأمراض وتُنشَر المعلومات عنها بشفافية، وهذا ما اعتدنا عليه، لكنّ الوضع تغيَّر في هذه الجائحة فقط".
ففي العام الجاري، توجهت ستراثدي وغيرها من علماء الوبائيات بطلبات إلى إدارة الصحّة في ولاية كاليفورنيا، تُناشد فيها بأنْ توفَّر لهم البيانات المُجهَّلة الخاصة بمرضى "كوفيد-19". وتُظهِر رسائل البريد الإلكتروني التي اطَّلعت عليها دورية Nature أنَّ طلبات الباحثين قد أخذت في اعتبارها حاجة الأفراد إلى حماية خصوصية بياناتهم، وذلك من خلال تدابير بعينها، على غرار طلب معرفة الشرائح العمرية للأفراد، بدلًا من أعمارهم المُحدَّدة. ومع ذلك، قُوبِلت طلبات الباحثين بالرفض، وهو ما لم يسبق أن حدث لستراثدي قَطّ. وقد برَّر ذلك مارك جالي -مدير إدارة الصحة في الولاية- في بريدٍ إلكتروني بتاريخ الثالث من يوليو بأنّ الإفصاح عن معلوماتٍ مأخوذة من سجلات الأشخاص "سيستلزم تحليلًا دقيقًا يستغرق وقتًا طويلًا لكل سجل، من أجل تحديد البيانات التي يمكن نشْرها علنًا من كل تقريرٍ على حدة".
وفي غياب معلوماتٍ مُحدَّثة، يُمكن أن يُعَوَّل عليها، عن المصابين، وأسباب إصابتهم، والأماكن التي تعرضوا فيها للفيروس، يتعيَّن على العلماء وصنَّاع السياسات الأمريكيين والجمهور أن يستعيضوا عن هذه المعلومات بالتقارير الإعلامية، والجهود المستقلة لجمْع البيانات ودمجها معًا، مثل "مشروع تتبُّع مرض كوفيد-19" COVID Tracking Project، الذي تعكف عليه مجلة "ذا أتلانتيك" The Atlantic، ومشروع "لوحة متابعة بيانات كوفيد-19" COVID-19 Dashboared، التي يجمع بياناتها باحثون من جامعة جونز هوبكينز، الواقعة بمدينة بالتيمور في ولاية ميريلاند الأمريكية.
وفيما يتعلق بالبيانات الصادرة عن وسائل الإعلام، فهي ليست بالضرورة شاملةً، أو تحظى بثقة الجميع، ولوحة متابعة البيانات لا توضِّح أماكن انتقال العدوى بالتفصيل. ولهذا تقول كايتلن ريفرز -عالمة الوبائيات من جامعة جونز هوبكينز- إنَّ هناك حاجة مُلحَّة إلى تلك المعلومات، لأنَّ الناس يعودون حاليًّا إلى أعمالهم، وإلى الاختلاط ببعضهم بعضًا، وإلى المدارس. وهذا يعني أنَّ تلك التدخلات المُصمَّمة بدقَّة لمكافحة المرض صارت أكثر أهمَّية من ذي قبل. وأضافت قائلة: "لا يكفي أن نطالب الناس بتوخِّي الحذر".